مقدمة:
يُعد حزب التجمع اليمني للإصلاح أحد الأحزاب الرئيسية في اليمن، ويُعد كذلك أحد الأطراف المحورية في حالة الاشتباك المعقد الناتج عن الحرب القائمة منذ مارس 2015م، ويمتلك الحزب قدرة كبيرة على التعبئة والتأثير على مسارات الحرب والسلام إلى الحد الذي يعتبره البعض القطب الثاني في الصراع، ومثل بقية القوى السياسية اليمنية الأخرى، غالبا ما يحرك موقفه من الحرب والسلام مع الحوثيين عدد من المخاوف والهواجس التي ينبغي الإحاطة بها والتعامل الإيجابي معها.
تقوم منهجية الدراسة، على أسئلة مفتوحة تم توزيها – عبر تطبيق قوقل درايف- على عينة عمدية من أعضاء الإصلاح تم فيها مراعاة المتغيرات التي يتوقع تأثيرها على موضوع الدراسة (المستوى التنظيمي، العمر، الانتماء الجغرافي، الخط الفكري) وذلك بغرض مساعدة الباحث على بلورة المخاوف العامة التي تحرك موقف الإصلاح من التسوية والسلام مع الحوثيين، كما تم اجراء مقابلات معمقة مع عدد من قيادات الإصلاح، وذلك لتمكين الباحث – والذي هو في الأصل متخصص أكاديميا وبحثيا في هذا الحزب، ومتابع لمواقفه- من بلورت المدركات التي تحركه تجاه التسوية والسلام مع الحوثيين، كما تم اشراك عدد من الافراد المهتمين من خارج الإصلاح، وذلك لمعرفة ما اذا كانت تلك المخاوف خاصة بهذا الحزب أم يتشاركها مع قطاع ما من أفراد المجتمع اليمني.
وكل ذلك من أجل تحقيق الهدف العام لهذه الورقة، والذي يتمثل في تنبيه صانعي السياسات ووسطاء السلام الدوليين والمحليين إلى طبيعة المحاذير التي تحرك حزب الإصلاح وتؤثر على سلوكه تجاه التسوية السياسية والسلام مع الحوثيين، في ظل الموازين العسكرية والسياسية القائمة.
لماذا الإصلاح:
تتأكد الحاجة إلى فحص المخاوف المتبادلة بين الأطراف الرئيسية اليمنية تجاه بعضها، لما لتلك المخاوف سواء كانت حقيقية أو متوهمة من تأثير كبير على سلوكها، وبالتالي على مسار الصراع وإمكانية التسوية والسلام، هذه الورقة تتناول جانبا من تلك المخاوف، ولكن من رؤية حزب التجمع اليمني للإصلاح (سنطلق عليها اختصارا الإصلاح) تجاه أنصار الله الحوثيين (سنطلق عليهم لاحقاً الحوثيين)، والحقيقة أنه لا يمكن النظر إلى الإصلاح والتعامل معه – فيما يخص موقفه من الحوثيين – كحزب سياسي فقط، بقدر ما يجب أن ينظر إليه على أنه كيان كبير يقع في قلب شبكة مرنة ومتنوعة من الحلفاء تتقاطع رؤيتهم جزئيا أو كليا تجاه مناهضة ما يسمونه “تمرد الحوثيين”، ويمتلك القدرة على التأثير فيها، وتضم جماعات دينية واتجاهات فكرية، ومكونات جغرافية وقوى اجتماعية وسياسية.
فالإصلاح يقع في قلب تيار واسع من مواطنين يتوجسون من مساعي الحوثيين لفرض تصوراتهم المذهبية في السلطة والحكم، يضم هذا التيار غالبية الأفراد القاطنين في المناطق المحسوبة تاريخيا على المذهب الشافعي، ويشمل كذلك مواطنين في مختلف مناطق اليمن ممن تأثروا بالأفكار الدينية التي انتجتها الصحوة الإسلامية في المنطقة خلال العقود الخمسة الماضية، ومئات الآلاف من الذين اغتربوا في السعودية، وتأثروا بنمط التدين السائد فيها، وبشكل أكبر خريجي المدارس والجامعات الحكومية، الذين تلقوا مفاهيم وتصورات دينية تضمنتها مناهج التعليم، وهي مفاهيم تركز على المشترك بين الفرق والمدارس الإسلامية، وكان لها دور حاسم في تجاوز الانقسامات المذهبية التاريخية، وتلك المناهج كانت تشرف عليها بصورة غير معلنة الحركة الإسلامية، ذات النفوذ الأكبر في قطاع التعليم بشمال اليمن، والتي مثلت الطور الأول لحزب الاصلاح.
جغرافيا يعتبر البعض الإصلاح رافعة لمناطق وسط وجنوب وسط اليمن، في مواجهة ما يسميه عبدالغني الارياني النخب القبلية الزيدية الشمالية، وحقيقة الأمر أن الإصلاح أوسع من ذلك، فهو يمتد على جغرافية اليمن بأكملها، بما في ذلك محافظة صعدة التي تُعد المعقل التقليدي لما يمكن أن نسميه الأفكار والمجموعات المذهبية والعلمية التي تؤمن بالإمامة والولاية، ولهُ حضور معتبر في بقية مناطق شمال صنعاء، التي كانت الرافعة الجغرافية لنظام الإئمة، ومخزونه البشري والعسكري، هذا الحضور للإصلاح أنهى التقسيم الجغرافي التقليدي لليمن على أسس مذهبية (يمن أعلى زيدي، ويمن أسفل شافعي).
ويمتلك الإصلاح وجودا كبيرا في المحافظات الجنوبية، من دون أن يدعي تمثيلها، بفعل حملات التعبئة ضده على خلفية موقفه من حرب عام 1994م، وبشكل أكبر بفعل منافسة أطراف أخرى له: التيار السلفي، وهو تيار تنزع معظم مجموعاته إلى التمايز عن حزب الإصلاح، وتتراوح علاقتها به بين التنافس أو العداء، وفصائل الحراك الجنوبي، التي برزت الى السطح منذ عام 2007م.
وقد أسهم التدخل العسكري لدول التحالف العربي في إحداث تحولات في الأوضاع السياسية والأمنية في تلك المحافظات، فبعد طرد الحوثيين من عدن، تبنت الامارات العربية المتحدة فرز ما يعرف بفصائل المقاومة واستقطاب مجموعات محددة في التيار السلفي ودمجها – الى جانب فصائل الحراك – في تشكيلات عسكرية تم انشاءها ورعايتها في عدن وعدد من المحافظات الجنوبية والشرقية، كما عمدت إلى تمكين فصائل الحراك من قيادة السلطة المحلية في عدن وعدد من المحافظات، وتوحيد معظمها في اطار المجلس الانتقالي الجنوبي الذي جرى تشكيله في 4 مايو 2017م، بالموازاة مع نهج مستمر لتقويض السلطة الشرعية والتضييق عليها، بدعوى التخلص من حزب الإصلاح لسبب غير مُعلن هو تمسكه بالوحدة، وقد ظل الإصلاح منذ 2016م على الاقل هدفا مشتركا لكل من: المجلس الانتقالي الجنوبي وجانب من التيار السلفي المدخلي ودولة الامارات العربية المتحدة سعيا منهم لاجتثاث نفوذه، و”صحيح أن هذا الجهد قد حقق بعض النجاحات إلا أن بُنية الحزب القوية ساعدته على البقاء.
وسياسيا، يقع الإصلاح في قلب تيار شعبي واسع يتمسك بالقيم السياسية التي قام عليها النظام الجمهوري الذي تأسس مع ثورة 26 سبتمبر 1962م، وهي قيم لا تمايز بين المواطنين، وتقر حقهم في المشاركة في مؤسسات الدولة، والوصول إلى المواقع القيادية العليا بما فيها منصب رئيس الجمهورية، وكذا بالقيم والأفكار السياسية الحديثة: الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية والانتخابات والمواطنة المتساوية، و”الشرعية الدستورية، ولذا فإن الإصلاح يكيف الصراع الراهن مع الحوثيين على أنه انقلاب على سلطات الدولة وخروج على الشرعية الدستورية، وهذا التيار في مجملة يعارض الأفكار السياسية التي يتبناها الحوثيون وخاصة ما يتصل بحصر الحق في تولي الحكم وإدارة السلطة على الأسر الهاشمية.
ويتقاسم الإصلاح تلك القيم مع بقية الأحزاب السياسية، وينفرد عنها بقدرته على التأصيل لها وتسويقها في الأوساط الدينية والشعبية، ومنذ سيطرت الحوثيين على السلطة تحول الإصلاح في نظر الكثيرين إلى حائط صد لحماية ما يصفونه بالجمهورية ومكتسباتها، حيث تتميز مواقفه تجاهها بالاتساق والصرامة، وهو نفس الدور الذي كان يتصدى له الخطاب السياسي لحزب المؤتمر الشعبي أثناء الحروب الست في صعدة (2004 -2010م)، قبل ان يعتريه التشويش والاضطراب بفعل تحالف زعيمه “علي عبدالله صالح” وتاليا جناحه في صنعاء مع الحوثيين.
تتشكل الصور السابقة للإصلاح بشكل أكبر بفعل دوره في مناهضة ما يصفه بانقلاب الحوثيين، فمع ان أطرافاً سياسية أخرى تنخرط في مواجهة الحوثيين إلا أن الإصلاح ينهض بالدور الأكبر منها سواء في التعبئة الشعبية أو الاشتباك الإعلامي والسياسي وربما العسكري.
وتقع مواجهة الحوثيين في قمة اهتمامات حزب الإصلاح، فبالرغم من اشتباكه سياسيا وإعلاميا – وفي بعض الحالات عسكريا- مع أطراف سياسية وعسكرية أخرى، أو تنافسه معها، إلا أن خطابه يركز على أولوية مواجهة ما يسميه “الانقلاب الحوثي” وتقديمه على ما سواه، خلافا لبعض القوى الأخرى التي تجعل من الإصلاح أو غيره خصما استراتيجياً، فيما يقع الحوثيين ربما في مرتبة أدنى ضمن قائمة الخصوم.
كما أن إمكانية تسليم الإصلاحيين بحكم منفرد للحوثيين تبدو ضعيفة ما لم يضبطها تفاهم مشترك بينهما، ويعود ذلك إلى أن الانشغال الكثيف بالسياسية بالنسبة للإصلاح، وانخراطه في الشأن العام يجعله – بشكل أو بأخر- في حالة اشتباك مع تصور الحوثيين وممارساتهم للسلطة، وهذا الوضع لا ينطبق بطبيعة الحال مع بقية الأطراف السياسية والاجتماعية، بمن فيهم مشائخ القبائل الذي لديهم مرونة عالية في التعامل مع من يحكم أيا كان توجهه، ومثلهم السلفيين، واللذين وإن كانوا أكثر تناقضا مع الحوثيين إلا أن بوسعهم – في حالات الاضطرار – الانسحاب من الفضاء العام، والانزواء في محاضن دعوية وتعلمية شبه مغلقة، وتدعيم ذلك بتخريجات دينية، تشدد على تجنب الفتنة، كما هو وضعهم اليوم في صنعاء وذمار وإب، وغيرها من المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين.
ومع كل ذاك، فقد أظهرت الخبرة القصيرة في العلاقة بين الإصلاح والحوثيين، أن الإصلاح يمتلك القدرة على تقديم المبادرات في محاولة منه لبناء تفاهمات يمكن أن تجنب الطرفين والبلاد المسارات الأكثر ضرراً، ففي ذروة توتر علاقته مع الحوثيين على اثر سيطرتهم على صنعاء في 21 سبتمبر 2014م، واستيلاءهم على مقراته، واعتقال عدد من قيادته وأنصاره، بادر الإصلاح إلى ارسال وفد إلى صعدة، التقى بـ”عبدالملك الحوثي” يوم الخميس 27 ديسمبر 2014م، ضم الوفد: سعيد شمسان رئيس الدائرة السياسية في الحزب وزيد الشامي رئيس كتلته البرلمانية، وأكد بيان صدر عن الاصلاح، وأخر بصيغة مقاربة عن الحوثيين “أن اللقاء جاء استشعاراً للمسؤولية الوطنية والأخلاقية والمخاطر المحدقة التي تحيط باليمن”، وأنه يهدف إلى طي صفحة الماضي والتوجه نحو بناء الثقة والتعاون في بناء الدولة، وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني واتفاق السلم والشراكة”. وأن الطرفان أبديا “رغبتهما في التعاون والتعايش المشترك، وبحسب رئيس الدائرة السياسية بالإصلاح، كان الهدف من اللقاء “اخراج اليمن من حالة الفوضى، ومنعه من الانزلاق إلى اتون حرب أهلية شبيهة بما تشهده سوريا وليبيا”.
وبالرغم من ان تلك الزيارة أحدثت ردود فعل غاضبة داخل الحزب، الى درجة ان توكل كرمان – التي كانت وقتها عضوا في الحزب – وصفت أعضاء الحزب الذين حضروا اللقاء مع الحوثيين بـ (العبيد) للقوة الغاشمة، وتعني بها الحوثيين، .. إلا أن قيادة الحزب اعلنت أنها على استعداد لعقد لقاء ثان مع الحوثيين.
وبقدر ما كان هذا الموقف صادما لأعضاء الحزب، فقد كان كذلك مفاجأ للأوساط السياسية والإعلامية، وهذا يؤكد أنه وبالرغم من العلاقة المعقدة بين الحوثيين والإصلاح إلا أن الأخير يمتلك القدرة على المبادرة والجسارة في تخطي العراقيل، وهو أمر يجب استحضاره وتشجيعه من قبل صانعي السلام.
لكل تلك الاعتبارات – وأخرى سيتم ذكرها لاحقا- فإن الإصلاح يُعد أكثر الأطراف تحسسا لمسارات الحرب والسلام مع الحوثيين، وقد يكون أكثرها قدرة على التعبئة، وأن دائرة التعبئة تتجاوز قواعده وأنصاره إلى دائرة أوسع ممن يتقاطعون معه في الأفكار والتصورات والمخاوف وإن أخذ محاذيره في الاعتبار عند بناء التسوية، والانتقال إلى مسار السلام أمر شديد الاهمية.
مُركبَّ المخاوف:
يتحدد موقف الإصلاح من أي تسوية سياسية مع الحوثيين على ما يُمكن أن نطلق عليه “مركب المخاوف”، والذي يشير إلى المحاذير والهواجس والانطباعات، والتوقعات واستدعاء الخبرة الماضية، ومن ذلك:
فرض نظام حكم قائم على تصور مذهبي ضيق:
يتبنى الحوثيين تصورا خاصاً لنظام الحكم يقوم على نظرية الولاية، وهي النظرية التي تحصر الحق في تولي الحكم في سلالة الهاشميين (الذكور من ذرية الامام علي ابن ابي طالب من ولديه الحسن والحسين)، وهي ذات النظرية التي استند عليها حكم الأئمة منذ عام 284ه، ولفترات متقطعة في التاريخ اليمني.
وهذه النظرية تُعد من الأركان الأساسية التي يقوم عليها الإسلام وفقا للمذهب الهادوي، وهي توجب على اتباعها العمل بكل السبل – بما فيها القتال – ليكون الحكام محصورين في هذه الفئة، وتتواتر الشواهد على مساعي الحوثيين لفرض هذا التصور على بقية افراد المجتمع، ومنها التعبئة في الخطاب العام وما يُعرف بالدورات التثقيفية والاناشيد الدينية، ويندرج في ذلك أيضا التغيير في مقررات التعليم، والالتزامات الواردة في مدونة السلوك الوظيفي، وغيرها، ويعد التصور الضيق للحكم الذي يتبناه الحوثيون من أهم عوامل القلق والتوتر في علاقتهم ببقية المكونات السياسية والاجتماعية، ومن المحركات الرئيسية للحرب، وضمن المخاوف الرئيسية التي يمكن ان تعترض مسار التسوية.
التمييز بين المواطنين:
إلى جانب مبدأ الولاية، يرتكز التصور السياسي للحكم عند الحوثيين على مبدأ الاصطفاء، ويعني أن الله تعالى اصطفى ذرية الامام علي ابن ابي طالب من ولديه الحسن والحسين (رضي الله عنهم) وجعل الحكم حقا حصريا
لهم.
و يُعد هذا المبدأ كذلك من المحركات الرئيسية للصراع في اليمن، واحد اهم ما يُمكن أن يُعيق التسوية والسلام مع الحوثيين، فهو يقسم المجتمع اليمني إلى أقلية تحكم بناء على انتمائها الأُسري، وأكثرية محكومة بشكل دائم، وهو يناقض التصورات الإسلامية الأخرى للحكم، والصيغ الحديثة للسلطة، وقيم المواطنة المتساوية والسيادة الشعبية ومرجعية الدستور الضامن للحقوق والحريات، وهو لكل ذلك يثير معارضة وغضب قطاع غير قليل من المواطنين، ويرون فيه تصورا عنصريا ينتقص من إنسانيتهم فضلا عن حقوقهم، ولذا ينخرط الإصلاحيون كما بقية أفراد الشعب في مناهضته.
صعوبة بناء شراكة حقيقية:
للاعتبارين السابقين ينظر الكثير من الإصلاحيين وربما اليمنيين بعين الشك حول مدى قابلية الحوثيين للشراكة السياسية مع الأخرين، ويبدو أن هذا الشك يتولد من أكثر من مصدر، منها الخبرة التاريخية لحكم الأئمة، والذي كان قائم على حصر الحق في تولى السلطة على الأسر الهاشمية، وجعل مشاركة بقية المكونات المجتمعية والجغرافية في اضيق الحدود، والمصدر الثاني هو أن صعود الحوثيين استنهض هذا الانقسام وأعاد له الزخم، ويتمثل المصدر الثالث في ذهاب الكثير من التعيينات في سلطة الحوثيون على ما يبدو لصالح الهاشميين.
ويتوجس الإصلاحيون من أن الحوثيين يسعون الى إقامة علاقتهم مع الاخرين على أساس الإلحاق وليس الشراكة، وقد كرست شراكتهم السياسية مع فرع المؤتمر الشعبي العام في صنعاء خلال السنوات السابقة من هذا الانطباع، فهي وإن تمت في سياق غير مثالي إلا أنها انتهت إلى هيكل شراكة صوري، بات معه فرع المؤتمر أقرب إلى التابع منه الى الشريك.
شكوك حول التزام الحوثيين بالاتفاقات:
يلاحظ الباحث وجود انطباع متزايد بأن الحوثيين لا يظهرون التزاما جديا بالاتفاقيات التي يكونوا طرفاً فيها، ومع أن هذا الأمر قد لا يكون شأنا حوثيا خالصا، إلا أن ثمة تجارب على الارجح كرست هذا الانطباع، فتاريخ تمددهم منذ عام 2004م انبى على سلسلة من الاتفاقيات التي كان يعقبها تمدد عسكري، ويدعم ذلك – جزئياً- ما يراه البعض عدم التزام الحوثيين باتفاق السلم والشراكة ومخرجات الحوار الوطني.
ويمتلك الإصلاح تجارب غير مشجعة في الاتفاقيات مع الحوثيين، فقد كان – سواء في مستواه المركزي أو المحلي- طرفا في تفاهمات واتفاقات مع الحوثيين، لكن الكثير من تلك الاتفاقات سريعا ما ظهر فشلها، فبعد أسبوع من الاتفاق بين الإصلاح وعبدالملك الحوثي في صعدة، الذي اشرنا اليه في السابق، اتهم رئيس الكتلة البرلمانية في حزب الإصلاح زيد الشامي، الحوثيين بنسف التقارب، واجتياح مديرية أرحب وتفجير المساجد ودور القرآن ومقرات ومنازل الإصلاحيين، وقدم الشامي استقالته من الفريق الذي يفاوض الحوثيين، كما قدم اعتذاره لكل من أيد خطوات التقارب بين الإصلاح والحوثي، وقال إن ما يحدث على أرض الواقع “خيب آمالنا وآمالهم””.
وبحسب قيادات الحزب فإن هذا الانطباع يتكرر على المستوى المحلي أيضا، حيث يرى “مهدي الهاتف” مسؤول الإصلاح في حجة أن فرع الإصلاح كان طرفا في اتفاقات مع الحوثيين أثناء المعارك التي تحدث في عدد من المناطق بما فيها “حجور”، غير أن الحوثيين لم يظهروا التزاما بتلك الاتفاقات، فهم غالبا ما ينخرطوا في حوار مع مشائخ القبائل وقيادات الأحزاب عندما يتعرضوا الى انتكاسات عسكرية في الميدان، وأن الالتزام بتلك التفاهمات يحدث لفترة بسيطة ريثما يتمكنوا من إعادة ترتيب أوضاعهم العسكرية ثم يعاودوا الهجوم العسكري.
مخاطر وجودية:
مثّل سيطرة الحوثيون على السلطة في بعض أبعاده خطرا وجوديا على الإصلاح على الأقل بالنسبة للصفوف الأولى من قياداته وكوادره المؤثرة، وترتب عليه نزوح واسع إما إلى مناطق أكثر أمنا أو الهجرة خارج البلاد، ويتوقع ان يكون لهذه القضية تأثير في سلوك الإصلاح – وأيضا المؤتمر – تجاه السلام مع الحوثيين، وقد تزامنت تلك المخاطر مع مخاطر وجودية أكبر في المحافظات الجنوبية تجاوزت قيادات الاصلاح إلى أعضائه العاديين ومناصريه ممن ينتمي الى تلك المحافظات، وفي اطار تلك المخاطر يمكن فهم سلوك الإصلاح في تعز، وتعامله مع جماعة أبا العباس وفي المعارك المتكررة التي دارت في شبوة، وتحركاته غير المعلنة في حضرموت.
اختلال التوازن العسكري:
يتشارك الاصطلاحيون وحلفائهم المحليين حيثيات يتأسس عليها موقفهم من امكانية التسوية تدور حول اختلال ميزان القوى وخبرة التعامل مع الحوثيين، فبسبب اختلال ميزان القوى يرجح أن يشارك الحوثيون في أي مباحثات سلام بيقين المنتصر والقوي واعتقاد راسخ بضعف خصومهم ولذلك ثمة مخاوف من أن يكونوا أقل استعداداً لتقديم تنازلات لإنجاح المباحثات، وتوفير عوامل الديمومة لها.
فعندما يميل الميزان العسكري لصالح الحوثيين، تساور الإصلاحيين مخاوف حقيقية من أن هذه التسوية قد تكون بلا جدوى، وربما تتحول إلى فترة استراحة قصيرة يعقبها جولة جديدة من الصراع، وعلى الاغلب فإن أغلب الأطراف اليمنية تشارك قيادات الإصلاح هذه المخاوف.
الارتباط بالمشروع الايراني:
بالرغم من عدم توفر شواهد قوية ومقنعة حول تبعية الحوثيين لإيران، إلا أنه قطاع من الإصلاحيين يعتقدون بذلك، فهم ينظرون إلى الحوثيين على أنهم جزء من المشروع الإيراني الذي ينافح لفرض سيطرته على اليمن والمنطقة، ويُعد هذا الاعتقاد من العوامل التي قد تؤثر على موقف الإصلاح من التسوية السياسية مع الحوثيين، وهذا الامر كما يبدو لا يقتصر على الإصلاحيين، بقدر ما يعكس توجها شعبيا في الاغلب.
تقويض مكاسب الاصلاح:
ينظر الإصلاحيون إلى الحوثيين في الاغلب على أنهم خصم صفري، وان حضورهم سيكون على حساب توجههم الفكري، ومكاسبهم التي راكموها خلال العقود الماضية، وأن خبرة الفترة الممتدة من عام 2014م تؤيد هذا، فقد سطا الحوثيون على مقرات الإصلاح واستثماراته ومنازل بعض قياداته وأنصاره، واعتقال والتنكيل بعدد من اعضائه، كما تم تجريف المحاضن التربوية وبيئة العمل المساندة التي استثمر فيها الإصلاح لعقود من الزمن.
مخاوف المبادرة دون مظلة:
يشدد أمين عام الإصلاح “عبدالوهاب الآنسي” على أن الإصلاح حزب سياسي وأنه لن يتفاوض مع الحوثيين إلا مع بقية القوى الوطنية وتحت مظلة السلطة الشرعية، وفي تحليل ذلك يرى بعض المراقبين أن الإصلاح تنتابه مخاوف تجاه المبادرة نحو الحوثيين دون أن يكون ذلك تحت مظلة وطنية أو إقليمية او دولية، ويعود ذاك إلى شعوره بالاستهداف من أطراف داخلية وبشكل أكبر قوى إقليمية ودولية فاعلة، تلك المخاوف تقيد حركة الإصلاح وتجعله اكثر تمسكا بالتحرك تحت السلطة الشرعية، والتحالف العربي الذي تقوده السعودية، والقرارات والجهود الأممية على المستوى الدولي، مخاوف التحرك بدون مظلة مخافة الاستفراد والاستهداف ليست هواجس بلا سند، فطوال سنوات الحرب، كان سلوك الإصلاح تجاه الحوثيين محل رصد، ومحل ادعاءات متعددة ايضاً، فقد انتظمت مطابخ إعلامية تابعة على الأرجح لأطراف على خصومة مع الإصلاح في اتهامه بالتنسيق وربما التخادم مع الحوثيين في محاولة لاستعداء دولتي التحالف ضده، والتمهيد لإخراجه من الشرعية ليسهل استهدافه والتنكيل به.
التأثير على مسار السلام:
ينتهي بنا العرض السابق الى محاولة الاجابة على التساؤلات التالية: هل المخاوف التي تحرك حزب الإصلاح خاصة به ام أنه يتشاركها مع قطاع ما من الشعب؟، وهل هي حقيقية ام متوهمة؟ وهل تؤثر على مسار السلام أم لا، وهل هي قابلة للمعالجة، وكيف السبيل الى ذلك؟
يبدو ان الاعتبارات المذهبية والفكرية والتاريخية جعلت دائرة التوجس من حكم الحوثيين استنادا الى القوة والغلبة دائرة واسعة، وان تلك الاعتبارات تشابكت مع مخاوف الناس من إمكانية تقويض المكاسب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحققت في ظل الحكم الجمهوري، ومن التبعات الاقتصادية والمعيشية التي يمكن ان تمس حياتهم نتيجة تصورات الحوثيين وسياساتهم، ونتيجة انقباض الأطراف الداخلية وبشكل أكبر الخارجية عن اسناد حكمهم، وقد أسهمت إدارة الحوثيين للسلطة الواقعة تحت أيديهم خلال السنوات السابقة في تكريس وتوسيع نطاق تلك المخاوف، لكل ذلك فإن الإصلاح يتشارك المخاوف السابقة مع قطاع غير قليل من الشعب.
ومع هذا لا بعد من الإشارة إلى أن ثمة مخاوف خاصة بالإصلاح، ومنها أنه هو الطرف الذي لديه الكثير مما يُمكن أن يفقده مقارنة بالأطراف الأخرى، كما أن الحوثي يمثل بديلا عن مشروعه السياسي، ومهدد استراتيجي لمكاسبه ونفوذه وبيئة تواجده، وبدورها فإن التنشئة الفكرية والتطلعات السياسية تجعل أعضاء الاصلاح أكثر تحسسا لتلك المخاوف.
وحول ما إذا كانت تلك المخاوف حقيقية أم لا، يبدو أن بعضها مبالغ فيه وخاصة ما يتصل بالتبعية الكاملة للحوثيين لإيران، وكذا إمكانية منع الشعائر الدينية للمخالفين، وفيما عدى ذاك فإن معظم القضايا حقيقة ولها تأثير على الأرض، وحول مدى تأثير تلك القضايا على التسوية السياسية والسلام، يبدو أن القضايا الفكرية وتلك المرتبطة بالجوانب العسكري، هي الأكثر تأثيرا، فامتلاك الحوثيين لقوة عسكرية ضاربة تبقى معضلة، لكن ومع هذا ربما بالإمكان إيجاد حلول لها، أما المعضلة الأكبر فهي مرتبطة بالتصور الحوثي للحكم، وهو تصور قائم على اعتقادات دينية، وهو ما يخلق تحديات حقيقية في مسار التسوية، وخاصة ما يتصل بتمييز الهاشميين، وحصر الحق في الحكم عليهم دون البقية، ومع الإقرار بالأوضاع شديدة التعقيد التي تنتج عن هذا التصور إلا أنه بالإمكان بناء حلول له، على النحو الذي سيشار اليه في التوصيات.
توصيات لصناع السياسات:
أولاً: توصيات خاصة بمعالجة مخاوف الإصلاح
تشجيع حوار استكشافي واسع بين قيادات متعددة المستويات التنظيمية والاتجاهات الفكرية من كلا الطرفين: الإصلاح والحوثيين، وعبر وسيط محلي أو دولي يحظى بالثقة، وعلى أن يتم هذا الحوار في مسار منفرد أو مواز للحوار أو التفاوض الجماعي، وبعيدا عن وسائل الاعلام.
التركيز في مرحلة الأولية للحوار على إزالة الانطباعات السلبية المتبادلة، والبحث في القضايا غير المعقدة ومنها رفع الحوثيين أيدهم عن مقرات الإصلاح وممتلكاته، ومنازل اعضاءه، وكيفية الترشيد المتبادل للخطاب في وسائل الاعلام، وإذا ما نجحت هذه المرحلة يتم الانتقال لمناقشة القضايا الأكثر تعقيدا؟.
يجب أن تكون قضية النازحين والمهجرين السياسيين حاضرة ضمن ملفات التسوية، وأن يضمن أي اتفاق عودهم، واسترجاع ممتلكاتهم بما يخلق مصالح لهذه الفئة المهمة في عملية التسوية وبناء السلام، وأن يضمن اتفاق التسوية كذلك تأمين حياتهم تجاه أي شكل من اشكال الانتقام.
ثانياً: توصيات عامة لأجل السلام
-تشجيع الأطراف اليمنية على تقديم تنازلات كبيرة توفر مخرج للتدافع التاريخي بين ما يمكن ان نسميه كتلة الولاية والكتلة الأكبر الرفضة لها، بما في ذلك مناقشة إمكانية اعتماد النظام البرلماني، وأن يخضع رئيس الدولة الذي يتم اختياره عن طريق الانتخابات لشرط الولاية، وعلى ألا يبقى في موقعه في كل الظروف والأحوال أكثر من دورة واحدة (أربع سنوات)، في حين تكون السلطة الفعلية بيد رئيس وأعضاء مجلس الوزراء، الذي يتم تشكيله بناء على الانتخابات البرلمانية.
يجب على الوسطاء المحليين والدوليين تحفيز الأطراف اليمنية على تحويل العلاقة بين الحوثيين وبقية الأطراف اليمنية بما فيها الإصلاح، من علاقة صفرية يحصد فيها طرف واحد كل المكاسب إلى علاقة يكسب فيها الجميع من خلال مراكمة المبادرات الإيجابية المتبادلة، بما يساعد على الخروج من دائرة العنف القائمة.
يضطلع الوسطاء الدوليين بدور محوري في التسوية وبناء السلام في اليمن، لكن من الأفضل أن يبقى هذا الدور في حدود التيسير والضغط وتوفير الظروف المناسبة، ومع هذا فإن الحل يجب أن يكون يمنياً، وتنتجه الأطراف التي تمتلك نفوذا على الأرض.
د. ناصر محمد علي الطويل