مقدِّمة: اعتمد مجلس الأمن الدولي، في اجتماعه المنعقد بتاريخ 11 يناير الجاري (2024م)، قرارًا يدين “بأشدِّ العبارات” الهجمات التي يشنُّها الحوثيون على السفن التجارية، وسفن النقل، في البحر الأحمر، ويطالب بالوقف الفوري لها. وجاء القرار على خلفية استمرار هجمات جماعة الحوثي على السفن التجارية، والتي بلغت ذروتها في 9 يناير الجاري، حيث أعلنت الجماعة أنَّها هاجمت سفينة أمريكية تقدِّم الدعم لإسرائيل، بعدد كبير مِن الصواريخ الباليستية والبحرية والطائرات المسيَّرة. واعترف وزير الدفاع البريطاني، “جرانت شابس”، أنَّ السفينة الحربية “دايموند”، التابعة للبحرية الملكية البريطانية، ربَّما جرى استهدافها في هجوم شنَّته جماعة الحوثي. فما هي الدوافع التي تقف خلف القرار؟ وهل يندرج في سياق الضغط والاحتواء الذي تتبعه الولايات المتَّحدة أم أنَّه يوفِّر غطاء لعمل عسكري محتمل؟ نصُّ القرار ورسائله: أدان القرار بأشدِّ العبارات الهجمات التي شنَّها الحوثيُّون، والتي زاد عددها عن العشرين، على السفن التجارية وسفن النقل، منذ 19 نوفمبر؛ وطالب أن يكفَّ الحوثيُّون فورًا عن جميع هذه الهجمات التي تعيق التجارة العالمية وتقوِّض الحقوق والحرِّيات الملاحية والسلم والأمن الإقليميين. كما طالب القرار -كذلك- بالإفراج فورًا عن السفينة “جالاكسي ليدر”، وعن طاقمها، وأكَّد وجوب احترام ممارسة السفن التجارية وسفن النقل للحقوق والحرِّيات الملاحية وفقًا للقانون الدولي، وأحاط علمًا بحقِّ الدول الأعضاء في الدفاع عن سفنها ضدَّ الهجمات، بما في ذلك التي تقوِّض تلك الحقوق. وأثنى القرار على الجهود التي تبذلها الدول الأعضاء في إطار المنظَّمة البحرية الدولية لتعزيز سلامة السفن التجارية وسفن النقل مِن جميع الدول، ومروها بأمان عبر البحر الأحمر؛ وشجَّع مواصلة الدول الأعضاء بناء وتعزيز قدراتها، ودعمها لبناء قدرات الدول الساحلية ودول الموانئ في البحر الأحمر وباب المندب بهدف تعزيز الأمن البحري. وشدَّد القرار على ضرورة معالجة الأسباب الجذرية، بما في ذلك النزاعات التي تسهم في التوتُّرات الإقليمية والإخلال بالأمن البحري، مِن أجل ضمان الاستجابة بسرعة وبكفاءة وفعالية؛ وكرَّر التأكيد في هذا الصدد على ضرورة أن تتقيَّد جميع الدول الأعضاء بالتزاماتها، بما في ذلك حظر الأسلحة المحدَّد الأهداف، الوارد في قرار مجلس الأمن، رقم (2216)، وتصنيف جماعة الحوثي جماعة يسري عليها حظر توريد الأسلحة، وفق القرار رقم (2624). وقد حصل القرار (2722) تأييد (11) عضوًا وامتنعت كلٌّ مِن روسيا والصين والجزائر وموزامبيق عن التصويت. قراءة في القرار: انطوى القرار على عدد مِن الدلالات والرسائل التي تعكس اتَّجاهات ومصالح الدول التي وقفت خلفه، ومِنها: شرعنة الوجود العسكري في البحر الأحمر: فقد أثنى القرار على الجهود التي تبذلها الدول الأعضاء -في إطار المنظَّمة البحرية الدولية- (في إشارة على ما يبدو إلى تحالف “حماية الازدهار”، الذي دعت إليه الولايات المتَّحدة)، وشجَّع أيضًا مواصلة الدول الأعضاء بناء وتعزيز قدراتها، ودعمها لبناء قدرات الدول الساحلية ودول الموانئ في البحر الأحمر وباب المندب بهدف تعزيز الأمن البحري. وقد رأت روسيا أنَّ نصَّ القرار على حقِّ الدول في الدفاع عن سفنها مِن الهجمات “ابتكار مريب وخطير مِن وجهة نظر قانونية وسياسية”، لا وجود له في القانون الدولي، وأنَّ الأهداف الحقيقية للقرار ليست ضمان أمن الملاحة في البحر الأحمر، وإنَّما “محاولة لإضفاء الشرعية على الإجراءات الحالية للتحالف الذي شكَّلته الولايات المتَّحدة وحلفاؤها، بعد وقوعها، وتحقيق مباركة مفتوحة لها في مجلس الأمن”. ولتجنب ذلك اقترحت روسيا إضافة فقرة إلى مسودَّة القرار تؤكِّد على أنَّ جميع أحكامه “لا ينبغي أن ينظر إليها على أنَّها تخلق سابقة أو معايير جديدة للقانون الدولي”. كما اقترحت استبدال جملة “الإحاطة علمًا بحقِّ الدول في الدفاع عن سفنها ضدَّ الهجمات” بعبارة تشير إلى “الحقوق المطبَّقة للدول الأعضاء وفقًا للقانون الدولي”. وقد قوبلت تلك المقترحات بالرفض مِن قبل الدول الغربية، في إشارة إلى أنَّها تستغلُّ الأعمال التي يقوم بها الحوثيون لفرض قواعد قانونية جديدة، سيتمُّ توظيفها لصالح تلك الدول في البحار الدولية، خاصَّة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. عدم الإشارة إلى العدوان الإسرائيلي ضدَّ قطاع غزَّة: فقد نصَّ القرار على “ضرورة معالجة الأسباب الجذرية، بما في ذلك النزاعات التي تسهم في التوتُّرات الإقليمية والإخلال بالأمن البحري”، ويقينًا أنَّ ذلك النصَّ أضيف إلى القرار لضمان تمريره في مجلس الأمن، وتجنُّب الاعتراض عليه مِن قبل روسيا أو الصين، وكانت الصين وروسيا قد اقترحتا، بالإضافة إلى الجزائر بشكل منفرد، إضافة إشارة محدَّدة للحرب على قطاع غزَّة، بدلًا مِن الإشارة إلى النزاعات الإقليمية بشكل عام، إلَّا أنَّ هذا الاقتراح قُوبل بالرفض. وقد حرصت الولايات المتَّحدة، والدول المساندة لها، على تجنُّب الإشارة صراحة إلى حرب الإبادة التي تقوم بها إسرائيل في حقِّ سكَّان غزَّة، في استمرار لنهجها الرافض لإيقاف العدوان الإسرائيلي ضدَّ الفلسطينيين في قطاع غزَّة. تجنُّب الإشارة المباشرة إلى إيران: لم يتضمَّن القرار أيَّ إشارة إلى دور إيران في تلك الهجمات، وذلك خلافًا للتصريحات العلنية للمسئولين الغربيين، وهذا الأمر قد يكون لتمرير القرار، وقد يكون لتفاهمات غير معلنة بين الولايات المتَّحدة وإيران ذاتها. دوافع القرار: مع أنَّ القرار جاء ردًّا على ما تدَّعيه الدول الغربية مِن هجمات قام بها الحوثيون إلَّا أنَّ الدوافع التي تقف خلفه، وخاصَّة ما إذا كان سيتم توظيفه لعمل سياسي أم عسكري، غير معلومة على وجه اليقين، وهو ما يدفع إلى وضع تفسيرين محتملين: التفسير الأوَّل: أنَّ القرار خطوة في سياق سياسة الاحتواء: فقد تبنَّت القيادة الأمريكية -منذ البداية- نهجًا واضحًا ومطَّردًا يقوم على عدم توسيع الصراع في المنطقة؛ وهي ترمي بثقلها العسكري والسياسي والدبلوماسي لما يحقِّق هذا الغرض. فقد أرسلت بوارجها إلى المنطقة لردع أيِّ قوَّة تفكِّر في الانخراط في الصراع الدائر في فلسطين، وعندما تراجعت فرص توسُّع الحرب عادت فأعلنت القوَّات البحرية الأمريكية، في الثاني مِن يناير الجاري، أنَّ حاملة الطائرات “يو. إس. إس. جيرالد آر فورد” ستعود إلى قاعدتها في الولايات المتحدة. كما أنَّ هذا الهدف يأتي على رأس أولويات الجولات التي قام ويقوم بها وزيري الدفاع والخارجية الأمريكيين. وكانت واشنطن قد أرسلت المبعوث الأمريكي الخاص، “أموس هوكستين”، إلى لبنان، في 11 يناير الجاري، لتهدئة التوتُّر على الحدود المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، مَّما يدلِّل على: أنَّ الردَّ العسكري على الحوثيين مِن قبل الأمريكيين لا يحتاج إلى قرار مِن مجلس الأمن، بل ولا يحتاج أصلًا إلى تشكيل قوَّة “حماية الازدهار”، في ظلِّ وجود عدد مِن التحالفات البحرية، ومِنها القوَّة (153). وعلى الأرجح أنَّ الإجراءات التي قامت بها الولايات المتَّحدة هي للتذرُّع حتَّى لا تضطرَّ للعمل العسكري؛ فالقيادة الأمريكية لا تلتفت إلى كلِّ تلك الأمور في تعاملها مع الجماعات الأخرى الموالية لإيران في العراق وسوريا، وتوجِّه نحوها هجمات عسكرية مباشرة. التقليل المستمر مِن هجمات الحوثيين، فحتَّى عندما تمَّ إصابة السفينة الحربية “دايموند”، التابعة للبحرية الملكيَّة البريطانية، لجأ وزير الدفاع البريطاني إلى لغة الاحتمالات فقال: “إنَّ السفينة ربَّما جرى استهدافها..”، و”ما أفهمه هو أنَّه مِن المحتمل أن تكون السفينة نفسها قد استهدفت..”. التحجُّج بالحاجة إلى التشاور مع الحلفاء، فبعد هجمات الحوثيين على السفن الحربية الأمريكية، وإصابة سفينة حربيَّة بريطانية، قال البيت الأبيض: “إنَّ الهجمات التي يشنُّها الحوثيون في البحر الأحمر تصعيدية، وإنَّ الولايات المتَّحدة ستتشاور مع شركائها بشأن الخطوات التالية إذا استمرَّت هذه الهجمات. ارتفاع لهجة التصعيد البريطانية ضدَّ الحوثيين في مقابل خفوت اللهجة الأمريكية، في إشارة إلى أنَّ الوضع قد يبقى في حدود الضغوط الإعلامية بغرض الاحتواء والردع. لا تتوفَّر معلومات قطعيَّة حول استعدادات عسكرية أمريكية لتوجيه ضربة على الحوثيين، فما رشح هو أنَّ وزارة الدفاع الأمريكية وفَّرت بدائل لتوجيه ضربات على أهداف داخل المناطق التي تسيطر عليها جماعة الحوثي في اليمن، وهذا أمر معتاد في كثير مِن الحالات، لكنَّه لا يؤشِّر على جدِّية هذا الخيار أو أنَّ الإدارة الامريكية ماضية فيه. التفسير الثاني: غطاء قانوني لعمل عسكري مرتقب: ثمَّة قراءة أخرى للقرار تؤشِّر إلى أنَّه خطوة استباقيَّة لتوفير غطاء لتوجيه ضربات عسكرية ضدَّ الحوثيين، ويدعم ذلك: الهجوم على السفن والبوارج الأمريكية والبريطانية، واحتمالية تعرُّض السفينة الحربية البريطانية التي تمَّ ذكرها للضرر، وهو ما يتطلَّب مِن الدولتين الردَّ حفاظًا على ماء الوجه. تواتر الأنباء، منذ مساء الجمعة (11 يناير الجاري)، عن استعدادات لشنِّ هجوم وشيك على الحوثيين، فقد ذكرت صحيفة التايمز “أنَّ الحكومة البريطانية تعقد اجتماعًا بالتزامن مع تحضيرات بريطانية أمريكية لشنِّ ضربات ضدَّ الحوثيين”، وذكرت الصحيفة أنَّ مِن المتوقَّع أن يستهدف التحالف الذي تقوده الولايات المتَّحدة قواعد رئيسة للحوثيين. ومِن جهتها، نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال”، عن مصادر قولها: إنَّ الشرق الأوسط يستعدُّ لضربات أمريكية ضدَّ الحوثيين، وذكرت المصادر أنَّ دبلوماسيين غربيين أوردوا أنَّ الأهداف المحتملة هي مواقع إطلاق صواريخ ومسيَّرات للحوثيين؛ وقالت الصحيفة: إنَّ دبلوماسيين غربيين أبلغوا مسئولين في مجال الشحن البحري أنَّ الأهداف ستكون حول الحديدة وحجَّة. استمرار هجمات الحوثيين، فقد أعلن الجيش الأمريكي “أنَّ الحوثيُّين أطلقوا صاروخًا باليستيا مضادًّا للسفن على ممرَّات شحن دولية في خليج عدن، يوم الخميس، لكنَّ الهجوم لم يتسبَّب في وقوع إصابات أو أضرار”. أنَّ التساهل مع الحوثيين قد يشجِّع أطرافًا أخرى على القيام بهجمات مماثلة، ومخاطر حدوث فوضى في منطقة بحرية شديدة الأهمية؛ فقد أعلن البيت الأبيض -في 10 يناير الجاري- أنَّ إيران استولت على ناقلة نفط قبالة ساحل عُمان، ودعا إلى الإفراج الفوري عن السفينة وطاقمها. الترجيح: يحظى المساران المبنيَّان على التفسيرين السابقين بنفس الفرصة تقريبًا مِن حيث التحقُّق؛ ومع هذا فإنَّ التطوُّرات المتلاحقة ترجِّح إلى حدٍّ ما مسار التدخُّل العسكري، وهو مسار إذا ما حدث سيترك الكثير مِن التداعيات على الأوضاع في اليمن وربَّما المنطقة.